مداخلة السيدة سلمى شيخي المستشارة المكلفة برئاسة قسم الوثائق والدراسات القانونية والقضائية بالمحكمة العليــــا بعنوان ” نشر و توثيق الاجتهاد القضائي في الجزائر ” خلال الملتقى العلمي الدولي حول: ” متطلبات تحقيق الأمن العقاري، المنازعات العقارية الإشكالات و الحلول” يومي 17 و 18 جوان 2025 بنواكشوط – موريتانيا.

حددت دساتير الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية،  المتعاقبة منذ الاستقلال سنة 1962 مهام المحكمة العليا التي كانت تسمى إلى غاية سنة 1989 “المجلس الأعلى” و مجال نشاطها، في محورين أساسيين هما: تقويم أعمال المجالس القضائية و المحاكم من خلال السهر على احترام القانون، من جهة وضمان توحيد الاجتهاد القضائي في جميع أنحاء البلاد، من جهة أخرى.

و لما كان موضوع لقائنا هو عرض التجربة الجزائرية في مجال نشر و توثيق الاجتهاد القضائي، فإن تركيزنا سينحصر على المحور الخاص بتوحيد الاجتهاد القضائي في جميع أنحاء البلاد باعتباره أساسا لتحقيق الأمن القانوني و القضائي، دون المحور المتعلق بتقويم أعمال المجالس القضائية والمحاكم من حيث احترامها للقانون، بالرغم من ارتباط المحورين ارتباطا عضويا. فلا يمكن للمحكمة العليا أن تقوم بتوحيد الاجتهاد القضائي إلا إذا قامت أولا بإنتاجه من خلال مراقبة مدى تطبيق الجهات القضائية على مستوى درجتي التقاضي، للقــــــــــــــــانون، بالفصل في الطعون المعروضة عليها وإصدار قرارات مبدئية يتعزز بها استقرار مواقفها القانونية، ثم سعت بعد ذلك إلى إبلاغ المعنيين بها. و يقصد بالمعنيين بها هنا، ليس فقط أطراف النزاع أو الجهات القضائية المصدرة للقرارات القضائية المطعون فيها، بل يتعداه إلى كل العاملين في الحقلين القانوني و القضائي.

و إن كانت طريقة إبلاغ أطراف الخصومة و الجهات القضائية المعنية مباشرة بالقرارات التي تصدرها المحــــــــــــــــــــــــــــاكم العليـــــــــــــــــــــــــــــــا، بمناسبة الفصل في الطعون المرفوعة أمــــــــــــــــــــــــــــامها محددة في القوانين الإجرائية،المدنية منها و الجزائية، فإن إبلاغ المهتمين بالمجالين القانوني و القضائي يتطلب النشر الواسع لنتاج عمل هذه المحاكم العليا، بكل الوسائل الممكنة. وهو ما يضمن في المحصلة، توحيد الاجتهاد القضائي و يحقق بالضرورة الأمن القانوني و القضائي.

يتطلب عرض التجربة الجزائرية في مجال نشر الاجتهاد القضائي بصفة عامة و الاجتهاد القضائي للغرفة العقارية بصفة خاصة ، تقديم نبذة تاريخية مختصرة عن الموضوع، ثم استعراض الوضعية الحالية، لننتهي بإعطاء لمحة عن مشاريع المحكمة العليا ذات الصلة، الجاري التحضير لها.

أنشئ المجلس الأعلى سنة 1963، في خضم ثورة البناء المؤسساتي التي انتهجتها الدولة الجزائرية غداة استقلالها و تم تنصيبه سنة 1964. فوجه تركيزه، في سنواته الأولى، على صناعة الاجتهاد القضائي الجزائري. ونظرا لانعدام الهيكل الإداري المنوط بنشر الاجتهاد القضائي، آنذاك على مستوى المجلس الأعلى، أخذ كل من وزارة العدل و معهد الحقوق بجــــــــــــــــــــــــامعة الجزائر على عاتقهمـــــــــــــــــا مهمة نشر القرارات النوعية الصادرة عن مختلف غرفه (أي غرف المجلس الأعلى)، ابتداء من سنة 1965 بإصدار وزارة العدل نشرية دورية باللغة الفرنسية تحمل عنوان”حولية العدالة” (annuaire de la justice) و نشرية دورية أخرى باللغتين العربية والفرنسية بعنوان “نشرة القضاة”، موجهة أساسا للقضاة و المحامين، وبإصدار معهد الحقوق، من جهته، لــ “المجلة الجزائرية للعلوم القانونية، الاقتصادية و السياسية” باللغة الفرنسية، ابتداء من سنة 1968.

و استمر الحال هكذا إلى غاية سنة 1989 و بالضبط بتــاريخ 12 ديسمبر 1989، حيث صدر القانون رقم 89-22 المتعلق بصلاحيات المحكمة العليا وتنظيمها و سيرها، الذي أعطى للمحكمة العليا تسميتها الحالية وأنشأ على مستواها “مصلحة المستندات و النشر”، التي حددت المادة 34 منه، من بين صلاحياتها، السهر على نشر مجلة قضائية للمحكمة العليا. واكتمل آنذاك الإطار القانوني لمجلة المحكمة العليا، بصدور المرسوم التنفيذي رقم 90-141 بتاريخ 19 ماي 1990، الذي حدد تنظيم مجلة المحكمة العليا و سيرها. فنصت المادة 2 منه على أن: “موضوع مجلة المحكمة العليا هو التعريف بتطبيق القانون بهدف توحيد الاجتهاد القضائي للمجالس القضائية و المحاكم”. كما حددت المادة 3 منه (أي من نفس المرسوم التنفيذي) مضمون المجلة: في نشر القرارات الصادرة عن المحكمة العليا و القرارات الصادرة عن الهيئات التحكيمية و التعليقات على القرارات القضائية   والتحكيمية والدراسات و البحوث في القانون الداخلي أو المقــــــــارن والنصوص التشريعية والتنظيمية و أشغـــــــــال المؤتمرات أو اللقاءات القضائية وعروض نشاطات المحكمة العليا.

و بالفعل شرعت المحكمة العليا، ابتداء من سنة 1989 في نشـر القرارات الصادرة عن مختلف غرفها بمجلتها المسماة آنذاك “المجـلة القضـائية” والتي بقيت محتفظة بهذه التسمية  إلى غاية سنة 2004، حيث استعملت التسمية الرسمية للمجلة، كما حددها المرسوم التنفيذي رقم 90-141 ، وهي: “مجلة المحكمة العليا”، ابتداء من العدد الثاني لسنة 2004 .

تدعم الإطار القانوني لمجلة المحكمة العليا بعد صدور القانون العضوي رقم 11-12 المؤرخ في 26 جويلية 2011 المحدد تنظيم المحكمة العليا وعملها واختصاصاتها (وهو آخر النصوص القانونية المنظمة للمحكمة العليا والساري المفعول حاليـــــــــــــا)، بصدور المرسوم التنفيذي رقم 12- 268 المؤرخ في 23 جوان 2012، الذي حدد شــــــــــروط و كيفيات نشر القرارات والتعليقات والأبحاث القانونية والقضائية للمحكمة العليا، المطبق حاليا. و كرست المادة 6 منه الطـــــابع المجــــــــــــــــاني للمجلة الذي امتازت به منذ نشأتها، بالنسبة للقضاة ومؤسسات الدولة و مراكز البحث.

تغير مضمون مجلة المحكمة العليا نوعا ما، في السنوات العشر الأخيرة، بسبب الثورة الرقمية، إذ اقتصر أســاسا على نشر قرارات غرف المحكمة العليا والدراسات القانونية ذات الصلة بالعمل القضائي و التعليقات على القرارات القضائية و الدراسات و البحوث القانونية، فيما تم الاستغناء عن نشر النصوص القانونية و نشاطات المحكمة العليا التي أصبحت متاحة على مواقع إلكترونية وتطبيقات إعلام آلية وطنية رسمية و خاصة، تضمن في آن واحد سرعة البحث والتحيين الفوري للمعطيات.

تنشر قرارات المحكمة العليا بالمجلة، بناء على محاضر اجتماعات مجلسها ، المتضمنة المداولات بشأن مشروع العدد بكل المواد المقترحة للنشر فيه. يتشكل المجلس من رؤساء الغرف ورئيس قسم الوثائق الذي هو في نفس الوقت رئيس تحرير المجلة و أساتذة جامعيين و يرأسه الرئيس الأول للمحكمة العليا. يتم اقتراح القرارات للنشر، أساسا من رؤساء الغرف، الذين يتلقونهــــــــــــــــــا في الأصل من قضاة غرفهم و استثناء من قسم الوثائق، عندما يرى هذا الأخير ملاءمة أو ضرورة لنشر قرارات مهمة، لم تقترحها الغرف.

صدرت مجلة المحكمة العليا أول الأمر بمعدل 4 أعداد عادية في السنة، إلى غاية سنة 1995، ثم أصبحت تصدر في عددين عاديين سنويا. و قد وصل عدد الأعداد العادية، إلى حد الآن 80 عددا. تَصدُر المجلة أيضا، منذ سنة 1997 في أعداد خاصة، إما لجمع الاجتهاد القضائي لغرف المحكمة العليا أو لنشر أشغال الندوات العلمية التي تنظمها. و قد أصدرت مجلة المحكمة العليا، لحد الآن، 19 عددا خاصا، و هي حاليا في المراحل الأخيرة من إنجاز العدد 20، المخصص للاجتهاد القضائي للغرفة المدنية.

على غرار كل غرف المحكمة العليا، أولت المجلة منذ نشأتها، اهتماما بالغا بنشر القرارات النوعية الفاصلة في المنازعات العقارية، التي كانت تفصل فيها أول الأمر، كل من الغرفة الاجتماعية (إيجار السكنات و المحلات المهنية)، غرفة الأحوال الشخصية (الهبة و قسمة التركات) و الغرفة المدنية (باقي المنازعات العقــــــــــارية و اشتراكهــــــــا مع غرفة الأحوال الشخصية في قضايا الهبة و قسمة التركات)، إلى غاية سنة 1997، حيث أنشئت الغرفة العقارية بالمحكمة العليا وأوكِل لها الفصل في جميع القضايا العقارية. فكان لزاما على المجلة أن تُفرد بابا خاصا بهذه الغرفة في أعدادها العادية، كما أصدرت المجلة أربعة أعداد خاصة بالاجتهاد القضائي في المنازعات العقارية: عدد خاص بالغرفة الاجتماعية صدر سنة 97، قبيل استحداث الغرفة العقارية، تضمن الاجتهاد القضــــــــــــــــــــــــائي للغرفة في مجال إيجار السكنــــــــــــــــــات و المحلات المهنية و ثلاثة أعداد خاصة بالاجتهاد القضائي للغرفة العقارية (عددان سنة 2004 و عدد سنة 2009).

أطلقت المحكمة العليا،ابتداء من سنة 2006، الطبعة الأولى من موقعها الإلكتروني و شرعت في نشر اجتهادها القضائي على صفحاته. مما سمح بإعادة نشر كل أعداد المجلة العادية منها والخـاصة و من بينها الأعداد الأربعة الخاصة بالاجتهـاد القضـــائي في مجال المنازعات العقارية، مرقمنة و قابلة للتحميل. فلُبي بذلك الطـلب المتزايد علـى المجـــلة  من كل العاملين في المجالين القانوني و القضائي والمهتمين به، لاسيما بعد نفاذ كل النسخ الورقية منها تقريبا، خاصة الأعداد الخـــــــــــــــــــــــــاصة و الأعداد القديمة. و أتاح الموقع الإلكتروني أيضا تأكيد استقرار الاجتهاد القضائي للمحكمة العليا، في المسائل القانونية التي تستقطب اهتمام الباحثين و القضاة و المحامين و غيرهم من المهتمين بالموضوع، سواء في مجال المنازعات العقارية أو غيرها من المسائل الهامة الأخرى، في المادتين الجزائية والمدنية، غير تلك المنشورة في المجلة، في صفحة خاصة من الموقع تحمل عنوان: “من قرارات المحكمة العليا”، مبوبة بحسب موضوعها و الغرفة الصادرة عنها. فأصبح الموقع الإلكتروني للمحكمة العليا أداة فعـالة لنشر الاجتهاد القضائي، لمـــــــــــــا يضمنه من سرعة. تجدر الإشارة إلى أن الطبعة الثانية من الموقع الإلكتروني للمحكمة العليــــــــــــا، أطلقت سنة 2016 و قد تم إطلاق طبعته الثالثة الأكثر مواكبة لآخر التقنيات المتبعة في مجال بناء المواقع الإلكترونية، في الأيام القليلة الماضية.

و مما لا شك فيه أن نشر الاجتهاد القضائي بصفة عامة و الاجتهاد القضائي في المنازعات العقارية، على وجه الخصوص بهدف توحيد الاجتهاد القضائي على مستوى الجهات القضائية في كامل التراب الوطني، يتطلب أولا، ضمان استقرار الاجتهاد القضائي على مستوى مختلف غرف المحكمة العليا وأقسامها. و في هذا الإطار، تعمل المحكمة العليا على توحيد اجتهادها القضائي ونشره بين قضاتها على نطاقين:

  • النطاق الأول يتمثل في وضع نظام رصد على مستوى قسم الوثائق، تم تأسيسه منذ سنة 2016، يسمح بمراجعة كل قرارات الغرف و مقارنة تلك الفاصلة في مسائل قانونية متقاربة أو مماثلة، من خلال استعمال محرك البحث الخاص بقاعدة بيانات تطبيقة التسيير الآلي للملف القضائي، التي يستخدمها قسم الوثائق في عنونة قرارات المحكمة العليا، بحسب المواضيع و المسائل القانونية التي فصلت فيها. و بهذه الطريقة، يتم تسجيل الاختلاف في المواقف ثم عرضه على جلسة خاصة من جلسات مكتب المحكمة العليا، الذي يترأسه الرئيس الأول للمحكمة العليا (انعقد أول اجتماع لتوحيد الاجتهاد القضائي بتاريخ 24/02/2021، تمت خلاله دراسة المواقف المتباينة في بعض المواضيع القــــــــــــــانونية الخاصة بغرفة الجنح و المخالفات).

تتم دراسة التباين في المواقف في قرارات المحكمة العليا في الجلسات الخاصة لمكتب المحكمة العليا، تدعى “اجتماعات توحيد الاجتهاد”، يُصدِر على أساسها الرئيس الأول للمحكمة العليا مذكرات، تحدد الموقف القـــانوني الواجب إتباعه من طرف قضاة المحكمة العليا، في حل المسائل القانونية التي صدرت بشأنها القرارات المتباينة. تجدر الإشارة إلى أن مذكرات توحيد الاجتهاد القضـائي تبنى على أساس دراسات وبحوث قانونية معمقة و جادة، تعتمد على الفقه الوطني و الفقه المقارن، يقوم بها قضاة من المحكمة العليا يستدعون لحضور اجتماعات مكتب المحكمة العليا و يتولون عرض المسائل القانونية محل الخلاف و مناقشة الحلول التي توصلت إليها أبحاثهم مع أعضاء المكتب. يقوم ديوان الرئيس الأول بتبليغ مذكرات توحيد الاجتهاد القضائي لمختلف غرف المحكمة العليا، كما يتولى بعد ذلك، قسم الوثائق و الدراسات القانونية و القضائية ضمان النشر الواسع لهذه المذكرات بين كل قضاة المحكمة العليا من خلال جمعها في ملف خاص بتوحيد الاجتهاد القضائي مثبت بالشبكة الإعلام آلية الداخلية للمحكمة العليا، يتضمن ملفات فرعية خاصة بكل غرفة. و قد كانت قرارات الغرفة العقارية موضوع مذكرة توحيد واحدة مؤرخة في 2022/06/01، فيما اجتمعت مع باقي الغرف المدنية في ثلاث مذكرات توحيد أخرى، صدرت كلها خلال سنة 2024، كانت حصة الأسد فيها لقرارات الغرفة العقارية.

  • النطاق الثاني الذي تسعى المحكمة العليا من خلاله إلى توحيد اجتهادها القضائي و نشره بين قضاتها، هو البدء منذ أوائل السنة المـــــــــــــــــــــــــــــــــــاضية (2024)، في إنجاز مدونة المحكمة العليا و هي عبارة عن موسوعة مبوبة لكل حيثيات قرارات المحكمة العليا  الصادرة عن كل غرفها، منذ أكثر من 20 سنة، على الأقل. ستسمح هذه المدونة بإنشاء قاعدة بيانات رقمية للحيثيات النموذجية ذات القيمة المعيارية، التي يتعين على قضاة الحكمة العليا استعمالها في تحرير قراراتهم، ضمانا لتوحيد الاجتهاد القضائي من جهة، و لتوحيد الصياغة اللغوية لقرارات المحكمة العليا من جهة أخرى.

في الأخير، و في إطار مشروع المحكمة العليا الإلكترونية الذي انطلق منذ سنة 2023، و الذي قطعت فيه المحكمة العليا أشواطا لا بأس بها، تعكف فرقنا التقنية بمصلحة الإعلام الآلي، بالتعاون مع إطاراتنا المختصة بقسم الوثائق، حاليا على إنشاء المجلة الإلكترونية للمحكمة العليا و التي من خلالها نضمن النشر الواسع للاجتهاد القضائي الجزائري في كل مجالات القانون، بما فيها المجال العقاري، ليس فقط داخل الوطن، بل وخارجه أيضا، فنساهم في آن واحد ليس فقط في ضمان الأمن القانوني و القضائي، بل و أيضا إثراء الاجتهاد القضائي المقارن.