باسم الله الرحمان الرحيم
و الصلاة و السلام على سيدنا محمد المصطفى
و على آله و صحبه أهل الوفاء
و بعد،
إنه لمن الدواعي الغبطة و السرور أن أتشرف اليوم بحضوري معكم في هذا الجمع الكريم ، بمناسبة الاجتماع السادس رفيع المستوى لرؤساء المحاكم الدستورية و المحاكم العليا و المجالس الدستورية الموسوم تحت عنوان: (دور الرقابة الدستورية في تنمية الشعوب الإفريقية). و أود بادئ ذي بدء أن أتقدم من هذا المنبر، باسمي الخاص ونيابة عن زملائي أعضاء الوفد الجزائري وعلى رأسهم السيد عمر بلحاج رئيس المحكمة الدستورية، بجزيل الشكر والعرفان لمعالي السيد المستشار الدكتور بولوس فهمي سكندر رئيس المحكمة الدستورية العليا بمصر الشقيقة ورئيس الاجتماع و جميع أعضاء الهيئة الدستورية التي يترأسها. و الشكر موصول أيضا إلى فخامة رئيس جمهورية مصر العربية السيد عبد الفتاح السيسي على رعايته السامية لهذا اللقاء الإفريقي الأخوي، الذي أضحى سنة حميدة لتعزيز الروابط بين دول قارتنا السمراء .
أما فيما يتعلق بموضوع مداخلتي المعنونة ب” كفالة الدستور للعدالة الاجتماعية من منظروها الاقتصادي” فإنها ترتكز أساسا على ما هو مطبق في النظام القانوني الجزائري. و سوف أحاول احتراما للوقت المخصص لي للإلقاء ، أن أكون مختصرا و ذلك بتجاوز المحور الأول النظري للموضوع و أكتفي بالتطرق إلى المحور الثاني المرتبط بالجانب العملي لهذا العرض.
أولا: الهدف من هذه المداخلة هو إبراز أهم جوانب النظام الدستوري الجزائري من الناحية العملية والأسس القانونية التي تبنت العدالة الاجتماعية خاصة من منظورها الاقتصادي لتحقيق تطلعات المجتمع الجزائري.
و غني عن البيان أن اليوم لا يخلو أي دستور في العالم من النص على ارتباط قيام الدولة و الحقوق والحريات الأساسية بمبدأ العدالة الاجتماعية ، خاصة ما تعلق منها بالجانب الاقتصادي ، لما تقتضيه التنمية في جميع البلدان.
ثانيا: الأسس التي تقوم عليها العدالة من منظورها الاقتصادي: يوجد شبه إجماع على أن العدالة الاجتماعية تقوم على أساسين هما: 1- المساواة و تكافؤ الفرص و عدم التمييز 2- التوازن الاجتماعي.
فالأساس الأول: يعني عموما المساواة في الحقوق و الواجبات و أن العدالة الاجتماعية تعمل على :
أ – المساواة في تكافؤ الفرص
ب – تقليص الفوارق لاسيما الاقتصادية منها .
أما الأساس الثاني: فيعني التوزيع العادل للموارد و الأعباء.
و لتحقيق هذين الأساسين فإن الأمر يتطلب إيجاد آليات تمثل في :
1- تنظيم الاقتصاد
2- سن تشريعات ضد التمييز بجميع أشكاله
3- إعادة توزيع الثروات الطبيعية.
و فيما يتعلق ببلادي الجزائر، فإن مبدأ العدالة الاجتماعية حضي باهتمام خاص منذ اندلاع الثورة الجزائرية بموجب بيان أول نوفمبر 1954 الذي يعتبر المرجعية الأساسية لجميع الدساتير التي عرفتها الجزائر ، و تعتمد هذه الوثيقة التي أعلنت عن اندلاع الثورة ضد الاستعمار الغاشم على هدفين أساسين هما:
– إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن المبادئ الإسلامية .
– احترام الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني.
كما عرفت الجزائر أربعة دساتير هامة هي : دستور 1963 و دستور 1976 و دستور 1989 و دستور 2020، تضمنت كلها ما يفيد اعتماد المؤسس الدستوري على مبدأ العدالة الاجتماعية.
وأن بروز المبدأ المذكور بشكل واضح تأكد بالدلالة في دستور أول نوفمبر 2020 الذي جاء عقب الحراك المبارك، باقتراح و تعهد من طرف رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون و أقر هذا الدستور عدة أحكام نصت على مبدأ العدالة الاجتماعية نذكر منها:
• مشاركة كل المواطنين في تسيير الشؤون العمومية و القدرة على تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة.
• بناء اقتصاد منتج و تنافسي في إطار التنمية المستدامة.
• قيام الدولة على ضمان الحماية الاجتماعية .
• اختيار الشعب لنفسه مؤسسات، من بين مهامها حماية الازدهار الاجتماعي و ترقية العدالة الاجتماعية .
• القضاء على التفاوت الجهوي في التنمية.
و من الحقوق الأساسية و الحريات، نص هذا الدستور على أن تضمن الدولة الحقوق الأساسية والحريات وتهدف إلى ضمان مساواة كّل المواطنين والمواطنات، و لهم الحق في حماية متساوية و لا يمكن أن يتذرع بأي تمييز يعود سببه إلى المولد أو العرق أو ا ِلجنس أو الرأي أو أي شرط أو ظرف آخر شخصي أو اجتماعي.
• حماية المرأة من كل أشكال العنف و تمثيلها في المجالس المنتخبة.
• حماية المعوزين عن طريق المساعدة القضائية و الرعاية الصحية و الوقاية من الأمراض المعدية والوبائية وفي الحصول على سكن.
• مجانية التعليم و إجباريته في المستويين الابتدائي و المتوسط.
• المساواة للالتحاق بالتعليم و التكوين المهني.
• العمل حقا و واجبا.
• ترقية التناصف في العمل بين المرأة و الرجل في سوق الشغل .
• إدماج الفئات المحرومة و ذات الاحتياجات الخاصة في الحياة الاجتماعية.
و بخصوص الآليات التي اعتمدتها الدولة الجزائرية لتطبيق العدالة الاجتماعية من منظورها الاقتصادي في مجال التنمية في الجزائر بمفهومها الشامل نذكر ما يلي:
أولا : قاعدة تكريس أنظمة التأمين الاجتماعي و معاشات التقاعد : و تتمثل في:
-توحيد أنظمة تقوم على مبادئ التضامن و التوزيع،
-الانتساب الإجباري لكل العمال الأجراء وغير الأجراء و الشبيهين بالأجراء و كذا فئات الأشخاص المسماة بالفئات الخاصة من المؤمن لهم اجتماعيا.
-توحيد القواعد المتعلقة بحقوق و واجبات المستفيدين.
-توحيد التمويل.
ثانيا: دعم سياسة التشغيل
و ذلك عن طريق الوكالة الوطنية للتشغيل، التي تتكفل بجمع عروض و طلبات العمل عن طريق عقود الإدماج، بتشجيع الإدماج المهني لطالبي الشغل المبتدئين، من فئة الشباب حاملي شهادات التعليم العالي وخريجي مراكز التكوين المهني و الشباب بدون تكوين. و في هذا الإطار ،عملت الدولة على سن قوانين بتمكين طالبي مناصب الشغل لأول مرة البالغين من 19 إلى 40 سنة من منحة، لتحفيزهم والتكفل بهم أثناء مرحلة بحثهم عن عمل و هو ما يصطلح عليه في بعض الدول بمنحة البطالة. و يعد هذا الإجراء النموذج الأول في إفريقيا، لم يسبق تطبيقه في أي من دولها .
ثالثا: قيام الدولة بمساعدة الشباب أصحاب المشاريع الاستثمارية، عن طريق تدعيمهم بقروض بنسب فوائد مخفضة و إعانات تقدمها الوكالة الوطنية لدعم و تنمية المقاولاتية و مرافقتهم في تنفيذ مشاريعهم وتقديم الاستشارة لهم.
رابعا: سن مجموعة من التشريعات تتضمن تبسيط إجراءات التقاضي في منازعات العمل، بحيث يتم الفصل فيها بشكل نهائي و لا تكون قابلة إلا للطعن بالنقض و في أحسن الآجال، مقارنة بباقي المنازعات في المواد الأخرى زيادة على إقرار مبدأ الدفع بعدم دستورية القوانين والتنظيمات.
خامسا: توفير التغطية الصحية و العلاج المجاني لاسيما للمحتاجين. و في هذا الإطار، تضمن الدولة في سياق الوقاية من الأمراض المعدية و الأوبئة، مجانية اللقاح و إلزاميته، خاصة بالنسبة للأطفال و التلاميذ المتمدرسين. و الدليل على ذلك ما تم تطبيقه خلال ظهور جائحة كورونا، من خلال تكفل الدولة بالتلقيح ضد هذا الوباء مجانا، وفقا لما تقتضيه شروط الوقاية و الأمن الصحي.
سادسا: توفير خدمات عمومية بالمجان في القطاع العمومي، مثل التعليم مع جعله إجباريا في المستويين الابتدائي و المتوسط و منح المساعدات المالية و الكتب واللوازم المدرسية، عند الدخول المدرسي لفائدة التلاميذ المعوزين أو عديمي الدخل وكذا توفير النقل المدرسي في القرى والأماكن النائية.
سابعا: قيام الدولة على تسطير برامج لفك العزلة عن المناطق النائية و المعزولة. و قد تم في هذا الصدد إعداد مخطط حكومي، يضمن إنجاز مشاريع لتوصيل مستلزمات الحياة الضرورية من كهرباء وغاز و ماء صالح للشرب و تعبيد طرق المواصلات. و سمي هذا البرامج بتطوير مناطق الظل وكانت له متابعة خاصة من طرف الدولة، إذ عين مستشار لدى رئاسة الجمهورية لتنفيذ و مراقبة هذا البرنامج.
ثامنا: اعتماد برامج السكن الاجتماعي توزع على محدودي و متوسطي الدخل، بالإضافة إلى صيغ أخرى للاستفادة من السكن بالنسبة لباقي فئات المجتمع، حسب دخل الفرد (مثل السكن التساهمي – الإيجاري العمومي إلخ).
تاسعا: تقنين أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية، مثل الخبز و الحليب و الزيت والسكر و السميد بمختلف أنواعه و المياه الصالحة للشرب و بعض الخدمات كنقل المسافرين عبر السكك الحديدية والنقل البري والإيجار المطبق على السكنات الاجتماعية و بعض المنتوجات الصناعية كإسمنت البناء و البنزين بمختلف أنواعه والغاز الطبيعي و تحديد هوامش مقننة للربح بالنسبة للمواد الصيدلانية المعدة للطب البشري وذلك في قوانين المالية التي تصدر سنويا و يتم تطبيقها عن طريق إصدار نصوص تنظيمية ملزمة .
الخاتمة:
ترتبط العدالة الاجتماعية بمفهومها المعاصر، ارتباطا عضويا بحق الإنسان في التمتع بمجموعة من الحقوق الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الثقافية.
صيغت هذه الحقوق في نص المواثيق الدولية التي تكفل احترام الدولة لها، مع إنشاء آليات تضمن حماية حقوق الفئات المحرومة و الضعيفة. و يتطلب هذا الالتزام من الحكومات عدم الاكتفاء بمجرد توزيع الميزانيات و الدعم الخارجي المتاح لها، بل النظر في كيفية زيادة الموارد المتاحة. لذلك تعتبر دسترة العدالة الاجتماعية ضمانة أساسية لعدم تنكر الحكومات للحقوق الاجتماعية والاقتصادية و الثقافية الأساسية وتقييد التصرف في ثروات الشعوب وفق المصالح الضرورية للحياة الكريمة، التي عادة ما تكون مقترنة في عديد البلدان بالنظام الاقتصادي العالمي و متغيراته و بالمؤسسات المالية الدولية ومتطلباتها.
و خلاصة لما سبق، نؤكد من خلال ما استقيناه من مداخلتنا، لاسيما ما تعلق بالإجراءات التي اتخذتها الجزائر ميدانيا تطبيقا لما هو منصوص عليه من قواعد في دستورها، بأن موضوع الكفالة الدستورية للعدالة الاجتماعية من جانبها الاقتصادي يتطلب حتما تدخلا إيجابيا للدولة، بتوفيرها للإمكانيات المادية وإقرارها لآليات وتدابير تضمن تحقيقها في الواقع. و للقضاء دور في حماية هذه الحقوق، من خلال الضمانات التي يمكن للمحاكم الدستورية أن تؤسسها كمبادئ دستورية، بموجب قراراتها في إطار إجراءات الدفع بعدم الدستورية المثار بخصوص القوانين المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، كون قراراتها غير قابلة للطعن و ملزمة لجميع السلطات العمومية الإدارية منها أم القضائية.
شكرا على كرم الإصغاء
و السلام عليكم و رحمة الله تعالي و بركاته.