مداخلة السيد ماموني الطاهر الرئيس الأول للمحكمة العليا خلال اليوم الدراسي حول تسبيب الأحكام القضائية

مداخلة السيد ماموني الطاهر، الرئيس الأول للمحكمة العليا

خلال اليوم الدراسي بعنوان ” تسبيب الأحكام القضائية”

يوم 23 ديسمبر2021، بمقر المدرسة العليا للقضاء، القليعة

بســم الله الرحمـن الرحيــم
والصلاة و السلام على أشرف المرسلين
سيدنا ونبينا محمد المصطفى الكريم
السيدات و السادة الحضور,
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته,

إن تسبيب الأحكام و القرارات القضائية يعد حقاً للأطراف أو المتقاضين قبل أن يكون واجباً مهنياً للقاضي و يصنف ضمن المبادئ و القواعد الأساسية التي وضعها المشرع لحسن سير جهاز القضاء أو العدالة , و الضمان الحقيقي الذي يُلجأ إليه لتحقيق الأمن القضائي إضافة إلى المبادئ الأخرى المتعلقة بحماية الحقوق و الحريات في المجتمع , فكلما استقام التعليل ثبت الدليل على شرعية الحكم و القرار , وتأكد الهدف الذي يسعى إليه المشرع والأطراف في آن واحد , وإذا حاد القاضي عن التزامه هذا, سواء بالتقصير في تسبيبه لحكمه أو قراره أو شابهما الانعدام أو الغموض فإن مآل الحق أو الهدف هو الزوال , و ينصرف عمل القاضي بذلك إلى التعسف و بالتالي انعدام الضمانات التي سُطرت له ضمن واجباته المهنية .
ومن هنا فإِنَّ حجر الزاوية و المسؤول الأول عن شرعية الحكم أو القرار هو القاضي و عليه يتعين أن يكون حاصلا على تأهيل مهني يمكنه من الفصل في النزاع بحق و عدل و أن يخضع للأحكام والمبادئ و الأسس التي يبنى عليها العمل القضائي و أهمها إن لم نقل أرجحها هو أن يكون التسبيب يتماشى مع المنطق القانوني والقضائي .
ويعتبر تسبيب الأحكام عملاً قضائياً يتطلب احترام منهجية وقواعد معينة خاصة منها التكييف القانوني للمسألة محل الفصل و أن يكون هذا التكييف مؤسس بطريقة تُفضي إلى تطابق المنطوق مع الأسباب يَسْهَل على كل من اطلع على الحكم أو القرار فهمه .
ولقد ورد وجوب تسبيب الأحكام في الدستور في المادة 169 منه بالقول :”تعلل الأحكام و الأوامر القضائية “و تجد هذه القاعدة تطبيقاتها في القوانين الإجرائية التي يعتمد عليها القاضي في إصدار أحكامه أو قراراته سواء أكانت ذات طابع مدني أو جزائي , إذ نصت المادة 277 من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية على أنه :
” لا يجوز النطق بالحكم إلا بعد تسبيبه و يجب أن يسبب الحكم من حيث الوقائع و القانون و أن يشار إلى النصوص المطبقة , وأن يتضمن ما قضى به في شكل منطوق ” , كما أن المادة 379 من قانون الإجراءات الجزائية بدورها نصت على أن كل حكم يجب أن يشتمل على أسباب و منطوق و تكون الأسباب أساس الحكم , ولم يستثني المشرع أي جهة قضائية بل ألزم كذلك المحكمة العليا بضرورة تسبيب أحكامها بمقتضى نص المادة 521 من قانون الإجراءات الجزائية بأن تكون أحكامها مسببة .

أيها الحضور الكريم ,
إن تسبيب الأحكام كوسيلة لتحقيق الأمن القضائي لا يختلف في مضمونه بين جهة الحكم الفاصلة في الموضوع و هيئة النقض , لكن المشرع خص هذه الأخيرة باعتبارها المُقومة لأعمال الجهات القضائية العادية بمراقبة مدى تطبيق القانون في سياق ما ورد في القرارات التي يطعن فيها بالنقض و جعل من انعدام أو نقص الأسباب وجها و سبب من أسباب النقض الذي يؤدي إلى إبطال الحكم أو القرار محل النظر.
وخلاصة ما يمكن أن نؤكد عليه من خلال طرح هذا الموضوع للمناقشة و الإثراء بأن العمل القضائي كله مبني على التسبيب حتى في الحالات التي لا يشترط فيها المشرع هذا الشرط بصريح النص مثل الأعمال الولائية , وطالما أن هذه المسألة تتعلق خصيصا بمؤهلات القاضي بالدرجة الأولى و الآليات و الإجراءات لممارسته لمهامه سيما سلطته التقديريـــــــة و الرقابـــــــــة القانونية لهيئة النقض والالتزامات المحددة في الدستور و القوانين الوضعية المنظمة لمهنة القضاء , فإنه يقع على عاتقه إصدار حكمه بما لا يدع مجالا للتفسير و النقد .
أيها الزميلات و الزملاء , إن الساحة القضائية تمر و لأول مرة في تاريخها بمرحلة تأسيس استقلاليتها الفعلية من خلال ما سطره المشرع الدستوري وفقا للمبادئ التي تعهد بها رئيس الجمهورية رئيس المجلس الأعلى للقضاء , والقاضي الأول في البلاد و المسطرة ضمن برنامج الحكومة الذي وافق عليها ممثلوا الشعب, و اعتباراً بأن الأحكام القضائية تصدر باسم الشعب الجزائري , وأن الاتفاقيات القضائية الدولية غايتها الأولى هو تنفيذ الأحكام و القرارات القضائية في إطار ما يطرح من منازعات بين الأفراد و المؤسسات المكونة لأطراف الاتفاقية فإننا مطالبون اليوم برفع التحدي إثباتا لمصداقية العمل القضائي و التسلح بالعلم و المعرفة و إثراء الاجتهاد و العرف الوطنيين لبناء قضاء مستقل للوصول إلى تأسيس دولة الحق و القانون .

و أخيرا لا يفوتني بهذه المناسبة أن أعبر عن جزيل شكري للذين عملوا و سهروا على تنظيم هذا اللقاء العلمي متمنيا كل النجاح لأعماله و أن تكلل المناقشات باقتراحات تفضي إلى تحسين نوعية العمل القضائي و الرقي به إلى المكانة التي نصبوا إليها جميعا .

وفقنا الله لبناء قضاءٍ مستقلٍ فيه خير للبلاد و العباد
و السلام عليكم ورحمة الله و بركاته.